الأمراض الوراثية.. جريمـــة الآباء في حق الأبناء
مئات الأمراض الوراثية يحملها الآباء العرب في أجسادهم، من دون أن يعانوا آثار تلك الأمراض، ولا يشعرون بأية أعراض أو مضاعفات لها، لكنهم يورثونها لأبنائهم، ليولدوا مصابين بأمراض مزمنة وخطرة وإعاقات تعذبهم في حياتهم، وتقربهم من الموت.
تحقيق : أحمد هاشم عاشور مشاهد مؤلمة، أو بالأدق مبكية، تلك التي تتكرر كل يوم في مستشفيات دبي وأبوظبي والمناطق الشمالية لأطفال يعانون تشوهات جسدية، أو إعاقات حركية وذهنية، يقفون على أبواب العيادات بحثاً عن علاج لحالاتهم التي لا شفاء منها. أطفال لا تتعد أعمارهم الـ10 سنوات، مستلقون على الاسرّة الطبية يعانون آلاماً مرضية مزمنة، ويحتاجون إلى دواء بآلاف الدراهم، ووحدات من الدم بصفة شهرية تساعد قلوبهم الصغيرة على مواجهة الموت. هؤلاء الأطفال يعانون أمراضاً وراثية نقلت إليهم من آبائهم، أو بالادق هم ضحايا لآبائهم الذين كان بإمكان الكثير منهم أن يجنبوا صغارهم هذه الأمراض، لكن الجهل، وربما الإهمال والاستهتار، جعلهم فريسة لتلك الامراض، تنهش أجسادهم الضعيفة، وتصل بهم إلى التشوه الجسدي والإعاقات، وللأسف تقود كثيرين منهم إلى الموت المبكر. تلك الأمراض الخطرة التي تتزايد معدلات الاصابة بها في الإمارات والدول العربية، نتيجة لنقص التوعية والاهمال. لم يعد الصمت حيالها ممكناً، فكل يوم يولد أطفال مرضى ومشوهون، يحيون حياة قصيرة تعيسة، وفي أيدينا الحل للحد من تلك الحالات. «الإمارات اليوم» تفتح الملف الذي يجهله كثير من الآباء والمقبلين على الزواج، وترصد معاناة أطفال مرضى في مختلف مدن الدولة، يعانون «جريمة الآباء في حقهم»، وتتعمق في أبحاث ودراسات أجرتها جامعات ومراكز إماراتية وعربية حول الأمراض الجينية، وتلتقي باحثين وأطباء بحّت أصواتهم في التحذير من «وباء أمراض الوراثة». لمشاهدة الموضوع بشكل كامل،يرجي الضغط علي هذا الرابط. |
كان بإمكان الكثير من هؤلاء الآباء أن يجنبوا فلذات أكبادهم تلك الامراض المميتة، بإجراءات عدة، تبدأ بفحوص ما قبل الزواج، وفحوص الأجنّة أثناء فترة الحمل، وفحوص ما بعد الولادة، التي تمكن من تحديد الإصابة بالمرض الوراثي وعلاجه مبكراً وتفادي مضاعفاته المزمنة والقاتلة.
في عيادة الأمراض الوراثية بمستشفى لطيفة بدبي، أطفال يعانون إعاقات ذهنية، يطوفون بأبصارهم يميناً ويساراً، لا يدركون ما يجري حولهم، وأطفال آخرون يعانون إعاقات حركية وسمعية وبصرية،على مقربة منهم أطفال يعانون مرض التقزم، وآخرون يعانون تشوهات جسدية وطولاً شديداً في الأطراف أو تضخماً في حجم الرأس، بصورة تثير الالم والشفقة، وتدفع أحياناً إلى البكاء.
الدكتورة فاطمة البستكي، استشاري الأمراض الوراثية في المستشفى، تستقبل ما يزيد على 400 طفل من هؤلاء المرضى سنوياً، وعلى الرغم من هذا العدد الكبير، إلا أن علامات التأثر كانت واضحة في تعاملها مع بعض الاطفال. وتصف الدكتورة البستكي هؤلاء الاطفال بأنهم أبناؤها «فمنذ اكتشاف إصابتهم بمرض وراثي في الأشهر الاولى من العمر، صاروا مرضى دائمين في العيادة، لفحصهم وعلاج المضاعفات التي تئن أجسادهم الصغيرة منها».
وتتحدث الدكتورة فاطمة لـ«الإمارات اليوم» مبدية حزنها الشديد لاستمرار إنجاب أطفال في الدولة يعانون أمراضاً وراثية متعددة.
وتقول إن «مئات الأطفال الذين يولدون سنوياً في مستشفيات الإمارات حاملون في أجسادهم أمراضاً ورثوها عن آبائهم، تبدأ من أمراض الدم، وتتنوع ما بين تشوهات وأمراض تسبب التشوه والموت المبكر». قائمة الأمراض الوراثية التي يحملها المواليد في الدولة طويلة، وكثير منها يصاب بها الأطفال نتيجة لجهل الآباء، أو إهمالهم في فحص مواليدهم، أو بسبب زواج الاقارب المنتمين إلى عائلات ظهرت فيها امراض وراثية.
وتشرح البستكي «بعض الامراض الوراثية يحملها الوالدان في جيناتهما بصورة متنحية، ولا تظهر عليهم أية أعراض، لكن عند الحمل ينتقل المرض إلى بعض المواليد، بنسبة إصابة تقدر بـ25% في كل حمل، وأكثر الأمراض الوراثية شيوعاً في الإمارات عن طريق الصفة المتنحية هي أمراض الدم المنجلية، والثلاسيميا، والأمراض التي تسبب خللاً في عمل الانزيمات، ما يحوّل بعض الاغذية في الجسم إلى سموم قاتلة».
والنوع الثاني من الامراض الوراثية يحملها أحد الوالدين بصفة سائدة في الجينات، وهي تصيب الاجنة بنسبة 50% في كل حمل، مثل «متلازمة مارفان» التي تسبب طولاً شديداً في القامة والأطراف وأمراضاً قلبية، والتقزم. أما النوع الثالث من تلك الامراض فيكون عن طريق بعض الكروموسومات مثل الكروموسوم «اكس الهش»، الذي يتسبب في إصابة المولود بعرض التوحد والإعاقة الذهنية.
ويعيش الطفل المصاب بأحد هذه الامراض سنوات عمره القصيرة، في عذاب دائم، ما بين ألم مستمر، واحتياج لرعاية طبية فائقة، وتأهيل في مراكز طبية وتعليمية متخصصة. ويصبح هذا الطفل، دون ذنب منه، سبباً في شقاء وعناء والديه وأشقائه، الذين تنحصر حياتهم بين البيت والمستشفى.
وتضيف الدكتورة فاطمة «إلى جانب ألم الطفل ومعاناة أسرته، تتسبب الأمراض الوراثية في أعباء مالية كبيرة، فالطفل الواحد يحتاج إلى عشرات الآلاف من الدراهم لعلاجه ورعايته شهرياً، وتتحمل الجهات الصحية الحكومية نفقات علاج الاطفال المواطنين، بينما يبحث مقيمون عن جمعيات ومؤسسات خيرية تسدد بعض تلك النفقات، التي لا يستطيع تحملها أي موظف».
فحوص ما قبل الزواج
وتلقي الدكتورة البستكي باللوم على الاسر التي تظهر فيها حالات إصابة بأمراض وراثية، أو حالات مصابة بإعاقات ذهنية أو حركية، وعلى الرغم من ذلك، تتمسك بتزويج أبنائها من العائلة نفسها، مؤكدة أن هذا الزواج يعد سبباً رئيساً لإنجاب أطفال مرضى.
وتضيف «نحث هذه العائلات على أن تجري فحوص ما قبل الزواج، واطلاع الاطباء على التاريخ المرضي للعائلة، ما يساعد على إجراء الفحص الطبي المناسب، وتقديم النصيحة الطبية الدقيقة قبل الزواج».
وتكمل أن «هناك حالات يرجح علمياً أنها ستنجب اطفالا مرضى، لذلك لابد من نصحهم بإعادة النظر في هذا الزواج، واذا ما تمسك الطرفان بالارتباط، يصبح أمامهما خيار آخر يتمثل في الانجاب عبر طريقة الحقن المجهري الخارجي». واوضحت أنه «يتم حقن بويضة الزوجة بحيوان منوي للزوج في المختبر، ثم تفحص البويضات المخصبة، ويتم استبعاد المريض منها، وغرس البويضات السليمة في الرحم، ما يساعد على إنجاب اطفال غير مرضى، وهي تقنية متوافرة في الإمارات والمنطقة العربية».
وتحذر استشارية أمراض الوراثة من اهمال فحوص ما قبل الزواج، أو الفحوص التي تساعد على الكشف عن الامراض الوراثية، منعاً لانجاب أطفال يعانون أمراضاً لا شفاء منها. وتلفت إلى أهمية فحوص ما بعد الولادة، التي تكشف ما اذا كان الطفل مصاباً بمرض وراثي «استقلابي»، وهي امراض تسبب تراكم مواد غذائية في الجسم، ما يحولها إلى سموم، قد تنتهي بوفاة الطفل.
وتشير إلى أن اكتشاف الامراض الاستقلابية في الايام الاولى بعد الولادة يساعد في تحديد العلاج المناسب، ما يحمي الرضيع من مضاعفات خطرة. وتؤكد أن «الزوجين يتحملان مسؤولية إنجاب أطفال مرضى، إذا ما أهملا في اجراء فحوص ما قبل الزواج التي تحمي من امراض الدم الوراثية، والفحوص أثناء الحمل، او فحوص ما بعد الولادة». وتكمل «للاسف هناك حالات لأسر لم تلتزم بتلك الفحوص، لنقص التوعية، وهو أمر لابد من تداركه، للحد من انجاب مواليد مرضى».
وصمة عار
وتنتقد الدكتورة البستكي سلوكيات بعض العائلات، التي تعتبر اصابة أحد افرادها باعاقة ذهنية أو حركية «وصمة عار»، ما يدفعها لإخفاء الطفل المريض، ولا يتم اطلاع المعنيين بفحوص ما قبل الزواج على هذه الإصابة، ما يتسبب في رسم صورة خاطئة للامراض الجينية في العائلة، ما يعني استمرار إنجابها أطفالاً مرضى.
وتكشف أن عيادة الامراض الوراثية في مستشفى لطيفة تستقبل أسراً لديها أكثر من طفل مصاب بذات المرض الوراثي، منها أسرة إماراتية تضم ثلاثة ابناء مصابين جميعاً بالإعاقة الحركية نتيجة لمرض وراثي.
شجرة العائلة
في جامعة خليفة، وبالتحديد في قسم الامراض الوراثية، تمضي الدكتورة حبيبة الصفار ساعات عدة كل يوم بين أجهزة المختبرات، لدراسة بعض الأمراض الوراثية المنتشرة في المجتمع الإماراتي والمنطقة العربية.
وقالت الصفار لـ«الإمارات اليوم» إن الدراسات البحثية الحديثة تحذر من زواج الاقارب، خصوصاً في العائلات التي ظهرت فيها حالات مرضية، مثل الاعاقات أو التشوهات، أو الإصابة بأمراض الدم والثلاسيميا، كون هذا النوع من الزواج يتسبب في استمرار إنجاب أطفال مرضى.
وتشير إلى أن بعض الحالات التي تجرى عليها دراسات في الإمارات تضم خمسة وأحياناً سبعة أطفال يعانون المرض نفسه، نتيجة لتوريث المرض من الأجداد إلى الابناء.
وتلفت إلى أهمية رسم «شجرة العائلة» أو الخريطة الوراثية لها، فهي تسهم في اكتشاف الامراض الوراثية المتنحية، وتحديد حاملي تلك الامراض في العائلة، ما يحد من انجاب اطفال مرضى، موضحة أن «الشجرة العائلية يتم رسمها بعد معرفة الحالات التي أصيبت بأمراض في العائلة على مدار ثلاثة أجيال، وتحديد المضاعفات الصحية التي تعرضت لها».