الأسماء المستعـارة.. تاريخ من التخفي
يختفي الكثير من الكتّاب وراء خمار الأسماء المستعارة. وهي ظاهرة قديمة قدم التاريخ، لكنها مستمرة حتى يومنا هذا، وإن اختلفت الأسباب.
الكثير من الكتّاب وضعوا هذا القناع، حتى تحول الأمر إلى ظاهرة أو قاعدة يُحتذى بها، تبرر غياب كاتب ما عن قرّائه.
فغالباً ما ينشغل الوسط الثقافي بهذه الظاهرة، أو يتسلى بها على طاولات المقاهي، فتتحول إلى نميمة دسمة ترتشف مع القهوة.
فهذا يتعقّب أثر صديق بين الأسطر، وذاك يحاول معرفته من أسلوبه، فكشف الخمار عن هذا الاسم أو ذاك يشكّل دائما متعة الجلسات.
«لعبة» المقاهي هذه تحوّلت إلى عمل جدّي من البحث والتقّصي لدى بعض الباحثين، أمثال الباحث اللبناني يوسف أسعد داغر، الذي ألّف كتاباً بعنوان «معجم الأسماء المستعارة وأصحابها».
يقول داغر «إنّ الرمز من الأساليب التي عمد إليها الإنسان منذ أقدم العصور في التستّر والتخفي عند البوح بأفكاره، والتعبير عن خلجات النفس الدفينة، وإن ظاهرة التخفي وراء اسم مستعار عرفها الأدب العربي القديم منه والحديث، إذ أخذ البعض من كتابنا ومؤلفينا قديماً وحديثاً، يتخفّون، وبينهم الكبار ينشرون بنات أفكارهم، وراء أسماء قلّما اتخذوها وعرفوا بها في دنيا الأدب».
كما أصدر السعودي عبدالرزاق القشعمي كتابه «الأسماء المستعارة للكتّاب السعوديين»، معتبراً أنّه يكرّم فيه أصحاب الأسماء المستعارة عبر الكشف عن هويّاتهم الحقيقية.
بعد إصداره الطبعة الأولى من الكتاب، بقي القشعمي يطارد بعض الأسماء التي لم يستطع كشف النقاب عنها في بحثه الأول، فدعا من يمتلكون معلومات إلى مساعدته في الكشف عن هوية الشاعر «فتى عنيزة»،
أحد الأسماء الذي بقي لغزاً، حتى بعد إعادة إصداره الطبعة الثانية من الكتاب، التي استطاع القشعمي فيها إضافة 50 اسماً إلى لائحته السابقة، فكانت النتيجة أنه رصد نحو 450 اسماً مستعاراً على مدى أكثر من قرن في تاريخ الكتابة السعودية.
لا يكون بحثٌ عن الأسماء دون بحث آخر موازٍ له، عن الأسباب التي تدفع كاتباً ما إلى الكتابة تحت اسم مستعار.
السبب الأقدم دون شكّ، هو ذلك المرتبط بالهرب من رقابة السلطان، أو الرقابة الدينية والاجتماعية، أما السبب الأكثر رواجاً اليوم، فهو المادّي.
إذ إن الصحف تمنع محرريها من الكتابة في صحف أخرى، فإن أراد الكاتب الصحافي ذلك ليضمن دخلا إضافياً، يلجأ إلى الكتابة باسم مستعار.
هذا إضافة إلى عقدة الأعمال الأولى التي تلاحق الكثير من الكتّاب، فيروا بنشر أعمالهم الأدبية الأولى باسم مستعار ملاذاً لهم وطريقة للتنصّل من مسؤوليتها ومن مضمون نصّهم، وإن لاقى عملهم الأول الاستحسان عادوا ونشروا باسمهم الصريح.
استعارات الأدب الأجنبي
هناك العديد من الأسماء المستعارة في الأدب الغربي، التي التحمت بهوية أصحابها.
«فولتير» مثلاً هو الاسم المستعار للكاتب الفرنسي فرنسوا ماري أرويه، وهو اختار هذا الاسم لينفض عنه أية علاقة تربطه بأبيه أو بعائلته، فكان اختياره لهذا الاسم بمثابة اختياره هوية جديدة له. كذلك فعل جيرار لابروني الذي تحوّل إلى جيرار دو نرفال، قاطعاً كل علاقة تربطه بأبيه، ومحاولاً نسب نفسه إلى عائلة أمه، فـ«نرفال» هو اسم أرض تملكها جدته لأمه.
جان باتيست بوكلين أو «موليير» أراد أن ينأى بنفسه عن عائلته البرجوازية، وما يمكن أن يسببه لها من إحراج، بسبب المسرح التراجي ـ كوميدي الذي كان يكتبه والنظرة السلبية له في القرن .17 مع بداية القرن 20، أصبح اختيار الاسم المستعار ومدلولاته أكثر تعقيداً. فالكاتب الفرنسي الروسي الأصل رومان كاسيف وقّع أول رواية له عام 1937 باسمه الحقيقي ثم تحوّلت للنشر تحت أسماء مستعارة.
عُرف كثيرا باسميه «رومان غاري»، و«إميل أجار»، و«غاري» بالروسية تعني «الاشتعال»، و«أجار»، «الجمر».
كما نشر باسمين آخرين هما «شاتان بوغا» و«فوسكو سينيبلدي».
واختار كاسيف النشر تحت أسماء مستعارة لأن ذلك، بحسب الكاتب، يضفي لمسة غامضة والتباساً حول شخصيته. أماّ البرتغالي فرناندو بسّوا فكان يعتبر أنّ كل اسم من الأسماء المستعارة التي استخدمها يختزل جزءاً من شخصيته.
فـ«ألبيرتو كاييرو» هي الشخصية التي تمثّل الطبيعة والحكمة الوثنية، «ريكاردو ريس» هو الذي يحب الحياة، «ألفارو دي كامبوس» يمثّل الحداثة والواقعية»، أمّا ريكاردو سواريس «فهي الشخصية الأقرب إلى شخصية بسّوا الحقيقية.
وإن كان هؤلاء الكتّاب اختاروا التخّلي، طوعاً، عن أسمائهم وأن يذكرهم التاريخ بأسماء مستعارة، فإن الكاتبات من النساء، في القرون السابقة، اضطررن لوضع هذا القناع، كي يكسبن حقّ الكتابة.
فجورج صاند مثلاً، هو الاسم المستعار الذي اختارته الكاتبة الفرنسية أورور دوبين في القرن 19، وهو اسم يذكّر باسم عشيقها «جورج صاندو».
و«جورج إليوت» الإنجليزي هو في الحقيقة «ماري إيفانز»، والأخوات برونتي كنّ يكتبن باسم «الإخوة بل» وذلك لأنّ ظهور اسم المرأة لم يكن مقبولاً اجتماعياً في العصر الفيكتوري.
أمّا اليوم فطبعاً، لم تعد هناك قيود تمنع المرأة الغربية من الكتابة، والبوح بأفكارها أو بمشاعرها، إنّما أصبح هناك سبب آخر يجبر الكاتب «رجلاً كان أو امرأة» في بعض الأحيان، على اتخاذ اسم مستعار، ألا وهو الخوف من التيارات المتطرّفة.
استعارات عربية
في تاريخ الأدب العربي الكثير من الأسماء المستعارة.
فمنهم من اختار اسمه بنفسه، ومنهم من اختاره له الناس، حتى طغت بعض الألقاب على الاسم الحقيقي للكاتب أو الشاعر.
من الشعراء الذين غلب اللقب عليهم، «همام بن غالب أو الفرزدق»، الشاعر «مسلم بن الوليد الذي لقّب بـصريع الغواني»، والشاعر «عبدالسلام بن رغبان الحمصي الذي لقّب بـديك الجنّ»، وتشارك معه بعدها بالاسم الشاعر المصري محمود صفوت الساعاتي والشاعر اللبناني سمعان نصر، أمّا الأديب المصري أحمد زكي فتسمّى بـ«ديك العلم».
هناك أيضاً من اكتسب اللقب بسبب شكله مثل «الشاعر الشنفرى»، و«المسدود» وهو لقب شاعر اسمه الحسن، لقب بذلك لأن أحد منخريه كان مسدوداً، أو بسبب حادث كما جرى مع الشاعر «ثابت بن جابر الذي لقّب بـتأبّط شراً»، والمشعّر «هو الشاعر الجاهلي يزيد بن سنان المري»، وأعطي هذا اللقب لأنه كان إذا حضر حرباً اقشعرّ.
كما أنّ هناك أسباباً كثيرة جعلت من الكتّاب العرب، خصوصاً الصحافيين منهم، يلجأون إلى طمس أسمائهم الحقيقية والتّخفي وراء اسم مستعار.
السبب الأقدم كان التحرر من القيود السياسية، الدينية والاجتماعية. فمثلاً في التاريخ العربي هناك الكثير من «الأشعار الماجنة»التي كتبها بعض الشعراء، ونسبوها إلى «أبو نواس» الذي اشتهر بصفة المجون، كمهرب من بطش الخليفة.
أمّا اليوم، فالعديد من الكتّاب العرب يقولون إنّنا أصبحنا في «زمن الديمقراطية» وظاهرة خوف الكاتب من الإدلاء برأيه أصبحت تتضاءل.
سياسيون وأمراء
سياسيون وأمراء عرب كتبوا بأسماء مستعارة أيضاً.
فكتب محمد بشير أحمد، الدبلوماسي السابق في وزارة الخارجية السودانية، مقالاً يعترف فيه بأنه هو الذي كان يختبئ وراء اسم عبدالعزيز حسين الصاوي، طوال ربع قرن من الكتابة حول القضايا الفكرية والسياسية.
والشيخ تاج الدين الحسيني، الذي عينه الانتداب رئيساً لسورية، كان يوقّع مقالاته بـ«أبو الضياء» أثناء عمله في تحرير مجلّة «الحقائق» الدمشقية وجريدة «الشرق».
أمّا السياسي خالد بكداش، فكان يوقّع مقالاته التي كان ينشرها في مجلّة «الطريق» اللبنانية باسم «باحث عربي». وكتب الشعراء السعوديون من أمراء الأسرة المالكة بأسماء مستعارة أيضاً، فالأمير عبدالله الفيصل هو «المحروم» والأمير خالد الفيصل هو «دائم السيف»، والأمير سعود بن سعود هو «منادي»، و«غادة الصحراء» هي الأميرة مشاعل بنت عبدالمحسن بن عبدالعزيز آل سعود، كتبت باسمها المستعار هذا أشعاراً في الغزل، وبقي بعض المثقّفين وقتاً طويلاً يتساءلون عن هويتها الحقيقية، وقال عنها بكري شيخ أمين في الحركة الأدبية في المملكة العربية السعودية «غادة الصحراء»، اسم رمزي لفتاة يبدو أنها من الأسر الرفيعة.
كذلك الأميرة فاطمة أخت ملك المغرب السابق الحسن الثاني، كتبت مجموعة من المقالات تحت اسم «باحثة الحاضرة». و في الأدب يعتبرّ «أدونيس»، وهو الاسم المستعار للشاعر علي أحمد سعيد، من أشهر الأسماء المستعارة اليوم. لجأ متأثراً بتاريخه القومي السوري، إلى الرموز القديمة، لاختيار اسم له، فـ«أدونيس» هو إله النهر والقطعان والسهول عند الإغريق. واختار فؤاد سليمان لنفسه الرمز ذاته، لكن بلفظته السومرية «تموز».
أمّا محمد الماغوط فكان يوقّع في بداياته باسم «سومر».
والشاعر بشارة الخوري أراد التمثّل بمجد كبار الشعراء والأدباء القدامى عندما لقّب نفسه بـ«الأخطل الصغير» نسبةً إلى الشاعر الأموي «الأخطل». و«البدوي الملثّم» هو الكاتب الأردني يعقوب العودات والكاتب السوري عدنان ذريل «هو عدنان الذهبي»، وزهير زهير«هو الشيخ فؤاد حبيش.
كما كتب غسان كنفاني مقالات باسم «فارس فارس»، والكاتب الأب أنستاس الكرملي، واسمه الأصلي بطرس بن جبرائيل يوسف عوّاد، نشر العديد من البحوث والمقالات في عدد كبير من المجلات والدوريّات في مصر والشام والعراق مستخدماً عددا من الأسماء المستعارة مثل: «ساتسنا»، «أمكح»، «كلدة»، «باحث» وغيرها.
الأديب شكيب ارسلان كتب في بعض الأحيان تحت اسم «أمير البيان».
والغريب أنّ هناك بعض الأدباء الذين تخفّوا وراء أسماء نسائية، كالكاتب السعودي أحمد السباعي، الذي كتب في بعض الأحيان باسم «فتاة الحجاز» في جريدة «صوت الحجاز»، والشاعر العراقي جميل صدقي الزهاوي وقّع باسم «ليلى»، والقاص ابراهيم البيروتي وقّع رواياته باسم «ميّ الصغيرة»، والكاتب اللبناني رئيف الخوري كتب عدّة مرّات تحت اسم «أم عبّاس».
كما كتب إحسان عبدالقدّوس مئات المقالات الموجهة للمرأة تحت توقيع «زوجة أحمد» ولما ذاع سرّ الاسم أصدرها في كتاب بالتسمية نفسها.
وللنساء العربيات حكاية أخرى، فهنّ كزميلاتهنّ الغربيّات لم يكن بمقدورهنّ الكتابة باسمهنّ الصريح في البداية.
فكتبت ميّ زيادة بعدد من الأسماء المستعارة نذكر منها «عائدة» و«إيزيس كوبيا»، وكانت أول امرأة تكتب في جريدة «الأهرام»، أمّا الثانية فكانت «بنت الشاطئ» وهي الكاتبة المصرية عائشة عبدالرحمن، التي لم تعتد أسرتها المحافظة انخراط النساء في الثقافة، واختارت هذا الاسم في إشارة إلى طفولتها في بلدة دمياط على شاطئ النيل.
أمّا الحقوقية والأديبة مقبولة الشلق فكانت أول امرأة سورية حازت الإجازة في الحقوق وكانت تنشر قصصها ومقالاتها تحت اسم «فتاة قاسيون».
لكن حتى اليوم مازال العديد من النساء الخليجيات يتمنعن عن النشر بأسمائهنّ الصريحة، وذلك بسبب ممانعة الأهل والنظرة الاجتماعية السائدة التي بموجبها لا يسمح للفتاة التصريح باسمها، بدافع الخوف من كلام الأقرباء، خصوصاً الأزواج.
ورغم النداءات التي تطلق لتشجيع المرأة الخليجية والسعودية بشكل خاص على الكتابة باسمها الحقيقي، الاّ أنّ عددا كبيراً منهنّ ما زلن يتخفّين وراء الأسماء المستعارة، فتقول مثلاً «أمل الحياة» إنّ «العائلة تعتبر ظهور اسم الأنثى عيباً، فلا يصحّ أن يتصدّر الصحف أو أن تذيّل به بعض المقالات».
أمّا اللبنانيون الذين كتبوا بأسماء مستعارة فهم كثر أيضاً، نذكر منهم: أنسي الحاج الذي كتب باسم «سراب العارف» و«عابر»، توفيق يوسف عوّاد كتب باسم «حمّاد»، فؤاد حدّاد باسم «أبو الحن»، أسد الأشقر باسم «سبع بولس حميدان» وحسن حمدان كتب باسم «مهدي عامل» و«هلال بن زيتون»، وحسين مروة باسم «أبو حسّان» وكامل مروّة باسم «عين»، والياس الديري باسم «زيّان».
والاسم الحقيقي لحسن داود هو حسن زبيب، وكتب الياس خوري باسم خليل أيوب ومروان العاصي، ويحيى خبيز يكتب باسم بلال خبيز، كذلك وضاح شرارة كتب باسم زاهي شرفان، وعباس بيضون باسم فادي محمد، وأحمد بزّون باسم أحمد غسان، وموسى وهبة باسم مروان أمين، ومحمد الحجيري باسم يوسف حاتم، وجورج حنا باسم الحارث بن يحيى.
كما وقّع ربيع جابر رواية وحيدة، «الفراشة الزرقاء» باسم مستعار هو «نور خاطر»، كما توقّع الكاتبة حكمت صباغ الخطيب باسم يمنى العيد. * تنشر بالتزامن مع جريدة «السفير» اللبنانية