وضع النقاب في الإسلام

وضع النقاب في الإسلام

قسم: اخبار العالم وضع النقاب في الإسلام » بواسطة adams - 24 نوفمبر 2024

لا شك أن الإسلام دعا إلى الحشمة والعفة، ومنع كل وسيلة تؤدي إلى انتهاك العرض، نظرة أو قولاً أو فعلاً، سداً لذريعة الفساد في الأعراض التي كانت حمايتها من الكليات الخمس التي حافظت عليها جميع الشرائع السماوية ــ وهي شرائع الإسلام التي جاء بها إبراهيم فمن دونه من الأنبياء عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام ــ فقد قال الله تعالى في محكم كتابه الكريم: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 30، 31]

فقد عنيت هذه الآية الكريمة ــ وغيرها كثير ــ بما يتعين على المرأة والرجل فعله من أجل الحفاظ على العفة وسداً لذريعة الفساد.

بقلم الدكتور أحمد بن عبدالعزيز الحداد *

الحمد لله الذي يكشف بدلائل شرعه ما يريب، ويفتح لبعض خلقه ما يريد، ويذهب السوء عمن التجأ إليه من العبيد، والصلاة والسلام على من بعث رحمة، وبكمال النعمة، وعلى آله وصحبه أهل الفضل والمنة، وبعد..

فقد أثير موضوع لبس المرأة للنقاب لما وقعت جريمة قتل لامرأة مستأمنة، من قبل امرأة منقبة ملثمة، فكأنها كانت بنقابها غاية في الالتزام، بينما هي في قمة الإجرام، فكان نقابها لجرمها ساترا، وبالإسلام مشهرا، ولا ريب أن الإسلام لا يمثله سلوك بعض أهله، لأنه نصوص واضحة، وقواعد شاهدة، فلا يكون فعل الناس حجة عليه، إلا أن النقاب أخذ شكلا من الجدل بين داع لرفعه، ومدافع له ببقاء وضعه، وقد وردتني أسئلة صحافية و«تويترية»، وشفوية عن حكم الشرع فيه، فرأيت أن مقالاً مختصراً أو تصريحاً صحافياً لا يفي بالغرض فيه؛ لأن كل فريق لن يرى فيه حجة من غير بيان، فرأيت أن أفرده برسالة خاصة مختصرة، تكشف الحقيقة الفقهية فيه، ليكون الجميع على بصيرة مما يقال أو يسمع، ونظراً لاتخاذ أسلوب الطرح المباشر، فقد أغفلت ذكر المراجع بالهوامش، مكتفياً بذكر النص مع الأمانة في النقل، فإن كان القارئ باحثاً فسيعرف مصدره، وإن كان غير ذلك فتكفيه ثقته بالكاتب،

والله تعالى أسأل أن يوفق الجميع لما يحبه ويرضاه، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه.

الجواب وبالله التوفيق:


• الوجه هو مجمع المحاسن، فبه تحصل الرغبة أو النفرة، والمدح أو الذم، كما قال بعضهم: ولا زال حسن الوجه أهدى الدلائل.. وإذا كان كذلك فهل تسد ذريعة الفساد من قِبله، بحيث يسدل عنه النقاب لغلق أبواب الفتنة؟


• «النقاب لا يعني الحجاب فعلاً أو تركاً، فإن الحجاب فريضة إسلامية، لا خلاف فيها بين أهل العلم، لدلائل النصوص الصريحة التي لا تقبل التأويل».

ولا ريب أن الوجه هو مجمع المحاسن، فبه تحصل الرغبة أو النفرة، والمدح أو الذم، كما قال بعضهم: ولا زال حسن الوجه أهدى الدلائل..

وإذا كان كذلك فهل تسد ذريعة الفساد من قِبله، بحيث يسدل عنه النقاب لغلق أبواب الفتنة؟

ذلك هو جوهر البحث الفقهي القديم والمتجدد، ولسنا بحاجة إلى أن نحدث فيه قولاً غير مسبوق، كالقول إنه ليس من الدين.

والبحث الفقهي فيه يتلخص في ثلاثة عناصر،

الأول: هل الوجه عورة؟

الثاني: ما هي مقتضيات العصر فيه؟

الثالث: في حكم نظر الرجل إلى المرأة.

الرابع: حكم نظر الرجل للمرأة والمرأة للرجل.

الخامس: هل هو عادة أم عبادة؟

أما العنصر الأول: فقد ذهب أكثر العلماء إلى أن بدن المرأة كله عورة ما خلا الوجه والكفين، كما قرره ابن رشد في بداية المجتهد ونهاية المقتصد (1/ 123)، استدلالاً من الاستثناء الوارد في الآية {إلا ما ظهر منها} فقد ذهب ابن عباس، وابن عمر، وعائشة، رضي الله تعالى عنهم، وعطاء، والحسن، وسعيد بن جبير، ومالك، والشافعي، وأبوحنيفة، وقول في مذهب أحمد، رحمهم الله تعالى، إلى أنه الوجه والكفان، ولأن الحاجة تدعو إلى كشف الوجه للبيع والشراء، والكفين للأخذ والإعطاء، كما قرره الإمام النووي في المجموع 3/167، وابن قدامة في المغني 1/431، ولو كان الوجه والكفان عورة لما حرم سترهما في النسك، وزاد أبوحنيفة القدمان، لأنهما يظهران غالباً، فهما كالوجه.

وذهب أبوبكر بن عبدالرحمن، وأحمد في الرواية المشهورة المفتى بها في المذهب، إلى أن المرأة كلها عورة.

وبناءً عليه فمن رأى عدم كونه عورة لم ير وجوب لبس النقاب، ومن رأى غير ذلك أوجبه.

وسبب الخلاف في ذلك احتمال قوله تعالى: {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها} [النور: 31] هل هذا المستثنى المقصود منه أعضاء محدودة، أم إنما المقصود به ما لا يملك ظهوره؟

فمن ذهب إلى أن المقصود من ذلك ما لا يملك ظهوره عند الحركة قال: بدنها كله عورة، حتى وجهها، واحتج لذلك بعموم قوله تعالى: {يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن….} [الأحزاب: 59] الآية.

ومن رأى أن المقصود من ذلك ما جرت به العادة بأنه لا يستر، وهو الوجه والكفان، ذهب إلى أنهما ليسا بعورة، واحتج لذلك بأن المرأة ليست تستر وجهها في الحج.

ورأي الجمهور مقيد بعدم وجود الفتنة، أي بأن لا تكون فاتنة الجمال، بحيث إن من ينظر إليها يفتتن بها، أو كان هناك من يتبعها بصره تلذذاً بها، فإن كان كذلك كان ستره واجباً باتفاق أهل العلم، سداً لذريعة الفساد، فإن ذلك من أصول التشريع، لاسيما عند مالك وأحمد، رحمهما الله تعالى.

وقد ناقش الطحاوي، رحمه الله تعالى، في شرح معاني الآثار (3/ 15) أدلة الفريقين، بعد أن ساق أدلة الجمهور، ومنها حديث المغيرة بن شعبة، رضي الله تعالى عنه، قال: خطبت امرأة، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: «هل نظرت إليها؟» فقلت: لا. فقال: «فانظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما» .

فقال: ففي هذه الآثار إباحة النظر إلى وجه المرأة لمن أراد نكاحها، فذهب إلى ذلك قوم. وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا يجوز ذلك لمن أراد نكاح المرأة و لا لغير من أراد نكاحها، إلا أن يكون زوجاً لها أو ذا رحم محرم منها.

واحتجوا في ذلك بما جاء عن علي، رضي الله تعالى عنه، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يا علي لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى وليست لك الآخرة»، قالوا: فلما حرم رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، النظرة الثانية؛ لأنها تكون باختيار الناظر، وخالف بين حكمها وبين حكم ما قبلها إذا كانت بغير اختيار من الناظر؛ دل ذلك على أنه ليس لأحد أن ينظر إلى وجه المرأة، إلا أن يكون بينه وبينها من النكاح أو الحرمة ما لا يحرم ذلك عليه منها.

ثم رد احتجاجهم بقوله: إن الذي أباحه رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، في الآثار الأول هو النظر للخطبة لا لغير ذلك، فذلك نظر بسبب هو حلال.

ثم دعم قوله بالنظر والقياس، فقال: ألا ترى أن رجلاً لو نظر إلى وجه امرأة لا نكاح بينه وبينها ليشهد عليها وليشهد لها أن ذلك جائز؛ فكذلك إذا نظر إلى وجهها ليخطبها كان ذلك جائزاً له أيضا. فأما المنهي عنه في حديث علي وجرير وبريدة، رضي الله تعالى عنهم، فذلك لغير الخطبة ولغير ما هو حلال، فذلك مكروه محرم… إلى أن قال: فلما ثبت أن النظر إلى وجهها حلال لمن أراد نكاحها، ثبت أنه حلال أيضا لمن لم يرد نكاحها، إذا كان لا يقصد بنظره ذلك لمعنى هو عليه حرام اهـ.

يعني بذلك الافتتان وارتكاب الحرام الذي مبدؤه النظر، كما قال عليه الصلاة والسلام «فزنا العين النظر»، كما رواه البخاري من حديث أبي هريرة، رضي الله تعالى عنه، وبناءً على هذا التفصيل يتضح أن المسألة خلافية بين السلف، رحمهم الله تعالى، والخلاف قوي جداً، وإن كانت أدلة الجمهور أقوى في الاستدلال وأكثر في السرد، حتى أفردها الشيخ الألباني بكتاب خاص أسماه «جلباب المرأة المسلمة»، ذكر فيه أدلة الفريقين، ورجح مذهب الجمهور. بينما ألف ابن تيمية رسالة في الموضوع أسماها «حجاب المرأة في الصلاة»، حققها الألباني، وخلص فيها ابن تيمية، رحمه الله، إلى القول بأن النظر إلى وجه الأجنبية من غير حاجة لا يجوز، وإن كانت الشهوة منتفية، لأنه يخاف ثورانها، واستدل من القياس بأن الخلوة بالأجنبية محرمة لأنها مظنة الفتنة، والأصل أن ما كان سبباً للفتنة فإنه لا يجوز، فإن الذريعة إلى الفساد يجب سدها إذا لم تعارضها مصلحة راجحة، ولهذا كان النظر الذي قد يفضي إلى الفتنة محرماً.

ومعنى ذلك أنه إذا لم يفض إلى الفتنة فليس محرماً، فيكون متفقاً مع قول الجمهور، عند أمن الفتنة، ويتفق معه الجمهور في الحرمة عند وجودها، كما دل عليه كلام الطحاوي الآنف الذكر.

وإذا كانت المسألة خلافية، فإنه لا ينكر على من قال بأحد القولين أو سلك أحد المذهبين، للقاعدة المتفق عليها أنه «لا إنكار في مسائل الخلاف»، بل إنه يسع الجميع، والحمد لله الذي جعل في الأمر سعة.

ما هي مقتضيات العصر فيه؟

أما العنصر الثاني؛ فإن الحديث فيه ينطلق من قاعدة «تحدث للناس أقضية على نحو ما أحدثوا من الفجور»، كما قاله مالك، رحمه الله تعالى، وبناء على سعة الشريعة ومرونتها مع مقتضيات المصلحة الموكول النظر فيها إلى ولي الأمر، الذي يرعى مصالح الدنيا والدين، ويسوس الناس بالدين، ولما اتفق عليه العلماء أن حكم الحاكم يرفع الخلاف، أي أن المسائل المختلف فيها بين أهل العلم فإن للحاكم أن يختار من أقوالهم ما يراه صالحاً لمعاش الناس ومعادهم، فإذا كان النقاب ذريعة للإفساد في الأرض، كأن يتنكر به الأشرار ليستتروا به لفعل جرائمهم، ويقلقوا السكينة، ويريقوا الدماء، فلا ريب أن القول بمنعه ممن يخشى منه ذلك يكون حتماً، تحقيقاً لمصلحة اجتماعية، وإعمالاً لقاعدة: «درء المفاسد مقدم على جلب المصالح»، وقاعدة «المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة»، وله أن يجعل ذلك قانوناً، في أوقات محددة وأماكن معينة، لا على سبيل العموم زماناً ومكاناً، لئلا يترتب عليه ضيق للناس في ترك المعايش والشعور بالحرج، وغمط الحق الشخصي.

على أن النقاب لا يعني الحجاب فعلاً أو تركاً، فإن الحجاب فريضة إسلامية، لا خلاف فيها بين أهل العلم، لدلائل النصوص الصريحة التي لا تقبل التأويل، فالحجاب أوسع من النقاب وأشمل؛ لأنه يعني أن لا تتبرج المرأة تبرج الجاهلية الأولى، فتخرج سافرة عارية، أو مبدية مفاتنها، ولو كانت لابسة لباساً شفافاً أو ضيقاً يبدي تقاطيع الجسد وأعضاءه، أو مظهرة للزينة التي حرم الله إبداءها لغير الزوج والمحارم، أما النقاب فهو وضع الغشوة أو البرقع على الوجه ليستره عن أعين الناس، فهو من مفردات الحجاب عند من يرى وجوبه، أو زائداً عنه زيادة في الستر عند من لا يرى ذلك، كما تقرر.


حكم نظر الرجل إلى المرأة والعكس

http://media.emaratalyoum.com/images/polopoly-inline-images/2014/12/234444.jpg

لما كان النظر بريد الزنا ومبدأ الحوادث والشرور، فإن الله تعالى قد أرشد المؤمنين والمؤمنات للقصد فيه، بحيث لا يستخدمونه في معصية الله تعالى، فقال سبحانه: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ…} [النور: 30، 31]، والأمر بالغض من البصر يعني إرشادهم إلى ما لا يجوز النظر إليه مما يكون سبباً للفتنة، كما قال ابن جرير الطبري عن زيد بن أسلم «يغض من بصره: أن ينظر إلى ما لا يحل له، إذا رأى ما لا يحل له غض من بصره، لا ينظر إليه، ولا يستطيع أحد أن يغض بصره كله»، والآية واضحة في النهي المقتضي لتحريم النظر المثير للفتنة، لأن النهي لم يكن على كل نظر، كما تقتضيه «من» التبعيضية، وهو ما دل عليه صراحة حديث بريدة بن الحصيب، رضي الله تعالى عنه، أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال لعلي: «يا علي لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى وليست لك الآخرة»، كما أخرجه أبوداود والحاكم وغيرهما.

وقد اتفق العلماء على مدلول هذه الدلائل؛ فرأوا حرمة النظر إلى وجه المرأة الأجنبية بهذا القصد، لما ورد فيه من الوعيد، كما روى الحافظ في المطالب العالية عن أبي هريرة، وابن عباس، رضي الله تعالى عنهما، قالا: خطبنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فذكر الحديث، وفيه: «ومن أصاب من امرأة نظرة حراماً ملأ الله عينيه ناراً، ثم أمر به إلى النار، فإن غض بصره عنها أدخل الله قلبه محبته ورحمته، وأمر به إلى الجنة، ومن صافح امرأة حراماً جاء يوم القيامة مغلولة يداه إلى عنقه، ثم يؤمر به إلى النار، فإن كالمها حبس بكل كلمة كلمها في الدنيا ألف عام».

فإن خلا عن هذا القصد، ولم تكن حاجة إلى التعامل، فقد ذهب السادة المالكية، في المشهور، والأحناف، إلى جواز النظر مع عدم الفتنة، وخالفهم الحنابلة، فقرروا حرمة نظر الرجل إلى وجهها مطلقاً، إلا لما دعت إليه حاجة التعامل.

ومقابل المشهور عند السادة المالكية حرمة النظر، كما في البيان والتحصيل (4/ 305) لابن رشد عن مالك، رحمه الله تعالى، أنه إنما حرم من النظر إلى وجه المرأة ما كان لغير معنى يبيحه من نكاح أو شهادة، بل إن مذهب مالك أن نظر الرجل تلذذاً إلى شيء من محاسن المرأة التي تحل له بنكاح أو شبهة نكاح أو ملك يمين يحرمها على أبيه وعلى ابنه، كما في البيان والتحصيل (18/ 489).

أما الشافعية فلهم فيه وجهان: الصحيح منهما عند النووي في المنهاج وغيره، وعند المتأخرين حرمة النظر إلى الوجه والكفين حتى مع الأمن من الفتنة.

ووجهه إمام الحرمين باتفاق المسلمين على منع النساء من الخروج سافرات الوجوه، وبأن النظر مظنة الفتنة ومحرك للشهوة، وقد قال تعالى: {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم}، واللائق بمحاسن الشريعة سد ذريعة الفساد؛ ولما ثبت في الصحيحين، أن امرأة من خثعم جاءت تسأل النبي، صلى الله عليه وسلم، في حجة الوداع، وخلفه الفضل بن العباس، رضي الله تعالى عنهما، فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه، وجعل النبي، صلى الله عليه وسلم، يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر.

والوجه الثاني عند الشافعية: أنه لا يحرم، بل يكره، ونسبه إمام الحرمين لجمهور الشافعية، ونسبه الشيخان للأكثرين، وقال الإسنوي في المهمات: إنه الصواب، لكون الأكثرين عليه، وقال البلقيني: الترجيح بقوة المدرك، والفتوى على ما في المنهاج.

وكل ما ذكر من التفصيل في حق الرجل من حيث النظر يقال مثله في حق المرأة بالنسبة للرجل، بحرمته عند الافتتان أو توقعه، والخلاف بين الإباحة المطلقة أو الكراهة أو التحريم عند الأمن منها، فإن النساء شقائق الرجل في الأحكام، ولذلك نظمن معهم في آية الأمر بغض البصر {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور: 31]

فالمسألة إذا خلافية عند أمن الفتنة، واتفاقية على الحرمة عند الخوف منها أو قصدها، والورع في مسائل الخلاف اجتناب الدخول فيها، وقد ثبت عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قوله: «النظرة سهم من سهام إبليس مسمومة، فمن تركها من خوف الله أثابه جل وعز إيماناً يجد حلاوته في قلبه»، كما أخرجه الحاكم في المستدرك وغيره.

العنصر الخامس: هل النقاب عادة أم عبادة؟

لا شك أن مسائل الحلال والحرام ليست من العادات، بل هي من العبادات، لأن من يرى حرمة الكشف فإنما يفعله خوف الوقوع في الإثم، ومن يرى حرمة النظر فإنما يتركه خوف الوقوع في الإثم، لأن التحليل والتحريم لله تعالى وحده، وقد علمت النصوص السابقة لكل قول من الأقوال، وهي أقوال معتبرة عند المسلمين؛ لأنها أقوال أئمة الهدى، ومن عليهم المعول في فهم نصوص الشريعة.

نعم العادة في شكله ونوعه، فقد كانت العادة عندنا، لاسيما في الإمارات، لبس البرقع الذي يغطي الوجه كله عدى العينين، ومازالت هذه العادة عند كثير من النساء الكبار، ثم تطور ليأخذ شكلاً أجمل وأقل حجماً، ثم تغيرت العادة مع الصحوة الإسلامية الكبيرة والمنتشرة في كثير من البلاد إلى لبس الغشوة السوداء؛ لأنها أكمل في ستر الوجه.

والاختلاف في العادات لا مشاحة فيه.

فهذا هو خلاصة القول المؤصل في مسألة النقاب الذي أثير بفعل الأحداث التي اتخذ فيه النقاب وسيلة للتعمية على العمل الإجرامي، وقد تقدم أن لولي الأمر أن يختار من أقوال أهل العلم ما يناسب المصلحة العامة للشعب، ويرتفع الخلاف باختياره باتفاق أهل العلم، وعندئذ يكون اتباعه فرضاً، ولا يرد على ذلك ما ورد في الصحيحين من حديث علي، رضي الله تعالى عنه، أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال «لا طاعة في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف»، فإن ذلك في المسائل الاجماعية المتفق عليها، أما المختلف فيه ففيه سعة للمسلمين، وقد جاء عن بعض السلف قوله «لا يعذب الله بمسألة اختُلف فيها»، على أن الخلاف يرتفع باختيار الحاكم ما يراه صالحاً للزمان والمكان.

* كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء

مانشيتات قد يهمك