«حين ميسرة».. الواقع أصدق إنبــاء من السينما

ينهي خالد يوسف فيلمه «حين ميسرة» بما يشبه الاعتذار من عجزه عن رصد الواقع، الذي يراه ـ حسب تعبيره ـ أشد مضاضةً مما قدمه في فيلمه، ولعله يطمح من خلال ذلك إلى القول إن هناك الكثير لم يحمله الفيلم في رصده لحياة واقعية لها أن تتخطى الخيال، وتخرج عن طوع الشاشة، وهي تحاول إحكام قبضتها حولها.

 

تلك مقدمة تأتي من نهاية الفيلم، الذي يسعى لتقديم صورة عن «العشوائيات» التي تزنر القاهرة، أي المساكن التي يتخذها الفقراء عشوائياً، ودون تخطيط حكومي، أو ما شابه، والتي، حسب يوسف، أصبح سكانها يشكلون 30% من سكان القاهرة.

قبل الخوض في فيلم «حين ميسرة»، يجب إيضاح الإشكالية التي أحيطت بالفيلم، والتي أجدها قادمة وعلى شيء يدفع للرئاء والضحك من منبع أخلاقي، ليس لي هنا إيضاحه إلا من جانب فني وجمالي بحت، بمعنى أن محاكمة الفن من خلال معايير أخلاقية أمر مكتوب عليه الفشل؛ ذلك أن الفن متى قرر الاقتراب من الواقع فإنه سيكون إشكالياً لا محالة، ولا معنى له إن كان لا يحمل فعل تعرية للحالة التي يتصدى لتصويرها، ولعل المشاعية الجنسية التي يبدأ بها الفيلم لا تخضع هنا لتحليل أخلاقي، بقدر ما تعود إلى ظروف اقتصادية كانت، ومازالت، المشكل الرئيس للعلاقات الاجتماعية، ففي ظل انعدام الملكية في عشوائيات القاهرة، والفقر الذي لا يميز أحداً، فإنه ومن الطبيعي أن تتشكل علاقات اجتماعية خاصة تفرضها تلك الشروط، وعليه فإن المشاعية التي يعيشها الأفراد لها أن تطال كل شيء ما دامت أصبحت في مرتبة صراع البقاء، والقانون الناظم لحياة الشخصيات اليومية يتمثل بعبارة «حين ميسرة»، فالجميع بانتظار أن يفرجها رب العباد، لكن أحوالهم على ما هي عليه، هذا إن لم تكن تتدهور يومياً. الإيضاح السابق يطمح للتعميم، بعيداً عن مدى واقعية فيلم يوسف، والذي يقترب من عوالم ولجتها أفلام كثيرة حول العالم مثل «مدينة الله» للبرازيلي فرناندو ميراليس عن مدن الصفيح حول ريودي جانيرو، و«تسوتسي» للجنوب إفريقي كيفين هوود عن أطفال الشوارع في جوهانسبرغ، دون إخضاع فيلم يوسف للمقارنة التي لن تكون في صالحه.

عليَّ هنا أن أقول إن أجمل ما في «حين ميسرة» ابتعاده عن الوعظ والتنظير، وانغماسه في القصة التي يتزاوج فيها التجاري بالتوثيق وتسجيل المقولة، فمن اللحظة الأولى في الفيلم تمضي كل شخصية في مصيرها، وتكون العلاقة التي تنشأ بين عادل (عمر سعد) وناهد (سمية الخشّاب) بمثابة القصة الرئيسة بالفيلم، فتخليص عادل لناهد من الرجل الذي يحاول الاعتداء عليها يمضي بهما إلى تقاسم السرير، والحمل والإنجاب، ومن ثم تهرّب الشاب من أن يكون أباً لذاك الابن، وإقدام الخشاب على ترك ابنها في حافلة للنقل العام، لتمضي الأحداث فنجد خشاب في طور تحولات تمليها عليها ظروف لا تعرف الرحمة من التشرد والضياع والفقر، إلى أن تمتهن العهر بعد محاولاتها المستميتة للنجاة من مصير كهذا، وعلى مسار موازٍ نتابع مصير سعد وتحوّله إلى الفتوة في حيّه، وتعاونه مع الشرطة، ومن ثم اصطدامه بضابط الأمن (أحمد عبدالغني) الذي يلفق له تهمة حيازة المخدارت ويضعه في السجن، ليكمل الفيلم مصير الابن الذي يُترك في الحافلة، والذي لا يجد إلا الشارع ملاذاً له بعد أن تتخلى عنه العائلة التي تبنته، كما نتعرف إلى أم عادل (هالة فاخر) المحاطة بأطفال لا عدَّ لهم من علاقات شرعية وغير شرعية، المنتظرة لابنها (رضا) الذي يعيش في العراق، ويبدو بمثابة المخلّص لها.

 
تبدأ أحداث الفيلم عام 1990، وتمضي ويظل العراق حاضراً بقوة، ففي اللحظة التي ينتصر فيها عادل على الفتوة السابق للحي، ويحاصره بدائرة نار، نرى بغداد تتعرض لقصف عام 1998، حيث ننتقل من نار عادل إلى نيران القذائف المنهمرة على العاصمة العراقية، وفي اللحظة التي تغتضب فيها خشاب على يد مجموعة من الشبان، تسقط بغداد في يد الأميركيين عام 2003، والشيء اللافت أن تقدم الأحداث لا يحدث أي تغيير على الأولاد الذين ترعاهم أم عادل، فهم أطفال إلى نهاية الفيلم، كما لو أنهم ديكور ولا شيء آخر.

 

وعلى خط موازٍ، نرى أحمد بدير قد بدأ يؤسس لتنظيم أصولي إرهابي، كون «العشوائيات» المنبت المثالي لهكذا أفكار، وليتعاون معه عادل بعد خروجه من السجن ويستعيد الفتوة، ويوقع الأمن بكمين يتفق عليه مع بدير. هذا يأتي أيضاً بعد تنكيل الأمن به وبعائلته بأشنع الوسائل، بما فيها تعرية أمّ وأخت عادل أمام ناظريه، لانتزاع اعترافات متعلقة بأخوه رضا، الذي، كما يقال، أصبح منتمياً لتنظيم القاعدة في العراق، دون أن أنسى أن الشخصية الوحيدة التي تعود من العراق، تعود بقرد نسناس يكون حصاد سنواته التي أمضاها هناك يعمل حارساً في حديقة الحيوان. أشياء كثيرة يقدمها الفيلم تمضي بنا إلى شخصيات وأحداث سمعنا بها واقعيا أو شهدنا مثيلاً لها في أفلام أخرى، فمصير ابن عادل وحياة التشرد التي يعيشها تعود بنا إلى فيلم تهاني راشد التسجيلي «البنات دول» الذي له أن يكون وثيقة واقعية عن أولاد الشوارع في القاهرة، ولعل مصير ابن عادل في «حين ميسرة» وعلاقاته مع من حوله من فتية يجد مرجعيته في فيلم راشد، أما المشهد الأخير في الفيلم فله أن يعيدنا، بشكل أو بآخر، إلى ما عرف بـ«التوربيني» لاسيما مع حضور القطار والصراع الذي يصوّر على سطحه.

 

يبقى أن نشير إلى أن في الفيلم ما يفيض عنه، وله في البيئة التي يتصدى لتصويرها منبع درامي لبناء شخصياته، ولعله يجد في الواقع أيضاً ما يتخطى الدراما إلى التراجيديا، ومجاورة تلك التراجيديا للسخرية التي على المرء أن يتحلى بها على مبدأ «شر البلية ما يضحك»، وصولاً إلى تحالف الفقر مع القمع الذي يظهره يوسف في أعلى تجلياته من خلال تعامل الأمن مع «العشوائيات»، مضافاً إليه بالتأكيد التطرف. إذاً الفقر والقمع والتطرف، أليس في هذا الثالوث قمة الانحراف، أم إن الانحراف أخلاقي فقط! 

Comments are closed.