تأملات في حياة الوالد الشيخ حمدان بن راشد آل مكتوم
الكبار هم من يكتبون التاريخ، والشيخ حمدان بن راشد هو ممن كتبوا التاريخ بماء الذهب في حياته، وبعد مماته، ويظهر ذلك من خلال الأعمال التي كانت بارزة في حياته، والتي ظهرت بعد وفاته رحمه الله.
في يوم 25 ديسمبر في عام 1945، أشرقت شمس ذهبية على مدينة دبي، ازدانت بلونها الذهبي، وكانت ترسل طيف العلم والإنسانية وحب الوطن، والرحمة وحب الإنجاز والإبداع، هذه الأطياف خرجت في هذا اليوم الذي أعلن قدوم شمس حمدان بن راشد إلى الحياة، وتبسمت دبي لهذا الطفل الذي أحب مدينته ووطنه وبادلته المدينة هذا الحب.
ومصادر كتابتي، هذا اليوم، عن الوالد الشيخ حمدان بن راشد، رحمه الله، من خلال ما ذكره لي والدي الشيخ حشر، رحمه الله، من خلال زياراته للشيخ حمدان في مجلسه المفتوح للجميع باستمرار، وحديث والدتي، أطال الله عمرها ومتعها بالصحة والعافية، التي كانت في عمره، وكانوا يسكنون في حي واحد، وكذلك من خلال مشاهداتي وقراءاتي لحياة الشيخ حمدان، وسأركز بشكل أكبر على الجانبين التعليمي والإنساني، علماً بأن الشيخ حمدان له اهتمامات متنوعة مثل الجانب الاقتصادي، وهو المحور الأساس في عمله، والجانب الرياضي لكرة القدم داخل الدولة، وفي جانب الفروسية الذي أصبح رمزاً من رموزها عالمياً.
والمتأمل لأبرز مصادر نبوغ الشيخ حمدان، وتميزه في حياته، وظهور علامات نجاحه، فإنه يعود إلى اهتمام الأسرة به ورعايتها له، وعندما نتأمل البيئة التي ولد فيها نجدها بيئة قيادة وعلم وفروسية وتاريخ من الإنجاز، ما ساعد في نبوغ الشيخ حمدان منذ طفولته أنه تربى في مدرسة القيادة، مدرسة العطاء، مدرسة الإبداع، مدرسة والدنا الشيخ راشد بن سعيد الذي جعل استثماره الرئيس والأول في أبنائه بتعليمهم وتربيتهم.
وكان الشيخ حمدان مع أخوته الكرام، الشيخ مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رحمه الله، والشيخ محمد نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي وزير الدفاع، أطال الله عمره، وحفظه لنا ولوطننا، والشيخ أحمد، حفظه الله، مع أخواتهم الكريمات، فقد عاشوا القيادة في أسمى صورها على يد الوالد المؤسس الشيخ راشد بن سعيد مؤسس دبي الحديثة، القائد الملهم، والاقتصادي العظيم الذي سبق عصره، كما أن الشيخة لطيفة بنت حمدان آل نهيان، رحمها الله، والدة الشيخ حمدان لها دور كبير في صناعة شخصيته، رحمه الله، وكان لها الأثر الكبير في تربيته وتميزه في حياته، كما أن لإخوانه وأخواته أثراً كبيراً في بناء شخصيته.
تعليمه
ظهرت علامات النبوغ على الشيخ حمدان منذ طفولته، إذ ظهرت علامات القيادة والتميز، وصقلتها دراسته وتعليمه في المدرسة الأحمدية، ثم انتقل إلى مدرسة دبي الثانوية، وبعد تخرجه تم ابتعاثه إلى بريطانيا ودرس اللغة الإنجليزية وعلوم البلديات في جامعة كامبريدج، ثم عاد إلى دبي ليواصل حياته العملية ويقوم بتطبيق ما تعلمه في دراسته.
أبرز المهام
تعد شخصية الشيخ حمدان من الشخصيات الجادة والملهمة لمن حوله، وحريص على المتابعة والتطوير، إذ أسهم في قيام اتحاد دولة الإمارات العربية المتحدة، وعُين أول وزير للمالية منذ تشكيل الاتحاد عام 1971 حتى وفاته، رحمه الله رحمة واسعة، وأسهم في وضع أسس لتطوير وزارة المالية من خلال التنوع الاقتصادي، واستدامة الأعمال وتطورها، حتى أصبحت دولة الإمارات من الدول الرائدة اقتصادياً في المنطقة.
أبرز إنجازاته الاقتصادية
يحرص القائد الناجح والفارس الواثق، على النجاح في استثمار كل الفرص، حيث ترأس بلدية دبي، وأسهم في تطويرها، وترأس هيئة الصحة وهيئة الكهرباء والمياه في دبي، وشركة دبي للألمنيوم المحدودة، كما أسهم في إنشاء هيئة آل مكتوم الخيرية، كما أسس شركة دبي للغاز الطبيعي المحدودة، وأنشأ مركز دبي التجاري العالمي، وشركة الإمارات الوطنية للمنتجات النفطية، ومركز تجهيز حقول النفط المحدودة.
الباب المفتوح
تعد سياسة الباب المفتوح من أهم الأساليب الراقية في قرب الشيخ حمدان لمجتمعه وأبناء وطنه، حيث كان مجلسه مفتوحاً لمواطنيه من جميع المستويات، حيث يجلس ويستمع لمن يزوره، ويسهم في حلّ احتياجات الكثير، وهذا ساعده على قضاء حوائج الناس.
أبرز إنجازاته في مجال التعليم
يعد التعليم المحرك الأول للاقتصاد، ومن المجالات المهمة التي أسهم الشيخ حمدان في العمل على تطويره، وذلك من خلال التفرد بمبادرات نوعية سبق بها عصره، وأصبحت مصدراً للإلهام على مستوى العالم، ومن هذه المبادرات التي أسهم بها إطلاق جائزة حمدان بن راشد آل مكتوم للأداء المتميز، حيث بدأت هذه الجائزة على مستوى الدولة، ثم بعد ذلك على مستوى مجلس التعاون الخليجي، ومن ثم على مستوى العالم العربي، وكانت هذه الجائزة تشمل منظومة المدرسة، من المشرف والمدير والمعلم والطالب، حيث أسهمت هذه الجائزة في تطوير التعليم، وأصبحت دولة الإمارات مزاراً للدول العربية للاستفادة من هذه التجربة، ثم ولدت فكرة جميلة تتمثل في جائزة حمدان بن راشد آل مكتوم – اليونسكو العالمية، التي أسهمت في نشر ثقافة الجودة والتميز المؤسسي على مستوى العالم، خصوصاً من قبل المؤسسات العالمية المعنية بتطوير التعليم مثل «اليونسكو».
ولقد تواصل عطاء الشيخ حمدان في مجال دعم التعليم، خصوصاً دعم فئة غالية ومهمة ولها تأثير كبير في التعليم وفي تطور الدولة، ويظهر هذا الدعم بإطلاق برنامج الدبلوم المهني للموهوبين حيث تم إنشاء مركز حمدان بن راشد آل مكتوم للموهبة والإبداع.
الشيخ حمدان الإنسان
إن المتأمل لشخصية الشيخ حمدان منذ طفولته وحتى وفاته، يجد أن هذه الشخصية تملك قلباً رحيماً عطوفاً محباً لأسرته ولوطنه ولقيمة العمل الإنساني، ويسمى بصاحب القلب الكبير الذي أصبح عنواناً لشخصيته، وأذكر أن الشيخ حمدان، رحمه الله، كان يزور والدي، رحمه الله، عندما كان في المستشفى، ويطمئن عليه يومياً حتى توفاه الله، كذلك كان يتابع حالة والدتي الصحية باستمرار، عندما كانت تعالج في بريطانيا.
وقد ذكر البعض ممن حوله أنه يتتبع احتياجات الناس وقضاء حوائجهم من خلال مساعداته المالية، أو من خلال الإسهام في علاجهم، ومن أجل الاهتمام بالعمل الإنساني فقد تم إنشاء «مؤسسة هيئة آل مكتوم الخيرية» التي أصبحت مظلة للعمل الإنساني المنظم والمؤسس، حيث تم تأسيسها بمدينة دبلن في إيرلندا عام 1997، وقد وصلت أياديه البيضاء إلى نحو 69 دولة، وتم التركيز على قارة إفريقيا وبعض دول آسيا لحاجتها إلى هذا الدعم والمساعدة، وكانت هذه الأعمال تتمثل في الجانب الصحي من خلال بناء المستشفيات والمراكز المتخصصة في علاج الشلل الدماغي وعلاج القلب، وكذلك اهتم بالجانب التعليمي من خلال بناء العشرات من المدارس وتجهيزها، وبناء كلية آل مكتوم للدراسات الهندسية، وبناء معهد تكنولوجي متخصص، وبناء سكن للطالبات، ومساعدة الأسر المحتاجة وكفالة الأيتام، وكذلك اهتم بإفطار الصائمين، وتسيير حملات الحج، والمساعدة في مواجهة كوارث السيول.
الهيئات والمؤسسات العالمية تشكر الشيخ حمدان
تعد الأعمال الجليلة التي قام بها صاحب القلب الكبير الشيخ حمدان طوال حياته محل تقدير واهتمام واحتفاء من دول العالم، فقد ظهر ذلك في حصوله على جائزة الشيخ راشد للشخصية الإنسانية لعام 2000، نظراً إلى دعمه العديد من المشروعات الإنسانية، كما حصل على أفضل شخصية عالمية في مجال الصحة والتعليم عام 2005 من قبل الاتحاد الدولي للمستشفيات، كما حصل على ثلاث شهادات من الكلية الملكية البريطانية عام 2006 كأول شخصية تحقق هذا الإنجاز، كما حصل على جائزة الشارقة للعمل التطوعي عام 2007، وحصل على أعلى ميدالية من منظمة الأمم المتحدة «اليونسكو»، تقديراً لدعمه لبرامج التعليم والعلوم، كما تم تكريمه من قبل قمة رئاسة الدول الإفريقية في أديس أبابا، تقديراً لدعمه لبرامج التعليم والإغاثة.
وفاته
من صفاته، رحمه الله، الصبر وتحمّل المرض، حيث امتثل للآية الكريمة «وبشر الصابرين»، وأصبح يمارس عمله، ويتواصل مع الآخرين، ويتابع خطط التنمية وهو يعاني المرض، حتى أعلن الخبر المؤلم في يوم الأربعاء (24 ديسمبر 2021)، الذي أدخل الحزن في كل منزل من منازل الدولة، وأصبح الناس يتواصلون لكي يعزوا بعضهم، ونُكّست الأعلام، وأعلن الحداد، وقام زعماء العالم بالتعزية في وفاته رحمه الله رحمة واسعة.
وقد كان هول المصيبة وألم الفراق واضحين على شقيقه ورفيق دربه وسنده ومحزمه، صاحب السمو الوالد الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، وهو يؤدي الصلاة عليه، وقد نعاه، يحفظه الله، بتغريدة قال فيها: «رحمك الله يا أخي وسندي ورفيق دربي.. وأحسن مثواك.. وضعت رحالك عند رب كريم رحيم عظيم»، كما نعاه ابنه البار صاحب السمو الشيخ حمدان بن محمد بن راشد آل مكتوم، ولي عهد دبي، بقوله: «إنا لله وإنا إليه راجعون.. ودَّع الوطن اليوم رمزاً من رموزه، وفارساً ترجَّل بعد رحلة عطاء ستبقى خالدة، نستلهم منها العبرة والدروس في إعلاء شأن الوطن، ونشر أسباب الخير.. نسأل الله عز وجل أن يرحم الشيخ حمدان بن راشد آل مكتوم.. ويسكنه فسيح جناته».
ولقد كان هذا المصاب العظيم الجلل الذي اعتصر قلوب أهله وأسرته ومحبيه دليل محبة له، ومع أن الشيخ حمدان كان مريضاً قبل وفاته وذهب للعلاج وعاد من رحلته العلاجية، إلا أن خبر وفاته هز أركاني، واعتصر الألم قلبي، وأصبت بالحزن والذهول والألم الكبير، واستقبلت الكثير من الاتصالات من داخل الدولة ومن خارجها، يعزون ويصبرون ويذكرون مآثره العظيمة، حيث أخبرتني بعض المتصلات بأعمال صالحة كبيرة كان يقدمها للكثير من أبناء وطنه في سر وكتمان.
وعزاؤنا الكبير أن الله، سبحانه وتعالى، وهب الشيخ حمدان أبناء وبنات فيهم الخير الكثير وفيهم من صفات وأخلاق والدهم، الذي يعد قدوة لنا ولهم، وأسأل الله أن يصبّر أختي الشيخة روضة بنت أحمد آل مكتوم، وأن يلهمها الصبر والسلوان، وأن يرحم الله الشيخ حمدان رحمة واسعة، ويسكنه فسيح جناته، إنه سميع مجيب، وإنا لله وإنا إليه راجعون.